آخبار عاجل

الحلقة التاسعة من كتاب "على قدر أهل العزم " لسعادة وزير الدولة حمد الكوارى

14 - 10 - 2023 7:56 608

حرب على التراث

الجهل المقدّس والعنف الهمجيّ
لم يكن عبقريّ السينما المصريّة يوسف شاهين في شريطه «المصير»  الوحيد الذي صوّر الجهلة من المتزمّتين وهم يحرقون الكُتُب باسم الدين زورًا وبهتانًا.  ولكنّ تصويره لذلك المشهد المرعب يتميّز بصلته بانحدار حضارة الأندلس وتراجع فكر ابن رشد المستنير. فهذا الفكر مثّل لحظة مشرقة التقى فيها انفتاح الفكر الإسلاميّ بعمق الإرث الإغريقيّ ليولّد اتجاهًا جديدًا في الفكر العالميّ آنذاك.  فالمشهد الذي صوّره شاهين يعبّر عمّا يمكن أن يصل إليه التطرّف والتزمّت من انغلاق فكريّ وعنف همجيّ ينصبّ على الكُتُب باعتبارها تحمل خلاصة ذكاء المفكّرين وإبداعهم.
ونجد في الكتاب الذي طلبتُ وأنا وزير للثقافة أن تترجمه إدارة البحوث والدراسات شواهدَ كثيرة على العلاقة بين الجهل والعنف .ففي «كتب تحترق »  للوسيان بولاسترون أدلّة على أنّ من البشر من سعى عبر التاريخ إلى إطفاء نور الفكر والإبداع وإيقاف عجلة التاريخ الثقافيّ وتقدّمه.
فمثلما كان العقل المبدع مقسَّما بين الثقافات، لم تخلُ أيّ ثقافة من الفكر الظلاميّ. وما عانته أوروبّا من محاكم التفتيش في القرون الوسطى بعض ممّا نقول، وما قائمة الكتُب المحرّمة من الكنيسة إلاّ فصلًا من هذا التاريخ المظلم.
ولا يقلّ تخريب التراث الإنسانيّ خلال الحروب والنزاعات بشاعة عمّا نراه من بشر يتعذّبون متروكين لمصيرهم ينهشهم الخوف والمرض والجوع في أحسن الحالات أو يجدون أنفسهم لاجئين في بلدان أخرى أو موتى تُرمى جثثهم في العراء.  إنّ هذا كلّه ليعصر القلب ألمًا وغمًّا.
سوريا في البال
لا يرتبط اهتمامي بالتراث بما ذكرته في فصول سابقة من عناية به ضمن ديناميّة التحديث في بلدي فحسب. فقد اتّخذت دولة قطر مبادرات عديدة للمساهمة في الحفاظ على التراث الإنسانيّ.
من ذلك أنّ سموّ الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأمير الوالدكلّفني سنة 2010 بزيارة حمص في إطار ترميم قلعتها المشهورة
والوثيقة الأصليّة للعُهدة العُمَريّة المعروضة في كنيسة أمّ الزنّار .
وهي من الوثائق التاريخيّة الأولى في التعايش بين الأديان.  وممّا تتميّز به حمص اجتماع معلَمَين دينيَّين نادرَين فيها هما: جامع خالد بن الوليد وكنيسة أمّ الزنّار، تحفتان فنيّّتان لا تخلُوان من رمزيّة.
 ولئن تلطّف حرق الكتب في عصرنا الحديث حين عوّضته الرقابة أحيانّا،  وهي لا تقلّ عنفًا،  فإنّنا نشهد في عالمنا العربيّ والإسلاميّ عودة لبعض مظاهر هذه البدائيّة التي تبرّر نفسها بالدين والدين منها براء.  فهي في حقيقة أمرها ترتبط بنزعة التدمير في الحروب التي تندلع هنا وهناك.
لقد كانت زيارتي إلى سوريا آنذاك بمثابة زيارة الوداع لبلد أحببتُه بعد أن أصابه ما أصابه من دمار.  فلسوريا في قلبي مكانة خاصّة. فيها عشت مكرّما وأنا سفير وربطتني بأهلها عشرة ومودّة .
وسمحت لي مهمّتي الدبلوماسيّة بالاطّلاع عن كثب على أهمّيتها الاستراتيجيّة وطبيعتها الخلاّبة وسماحة أهلها وتمسّكهم بما يجمع بينهم حتّى جاء تراثها الثقافيّ ثريًّا متنوّعًا في تناغم أخّاذ وصورة من طيبة السوريّين.
وفي سوريا رُزقت بابني البكر «تميم»  الذي شرب كما شربتُ من ماء بَرَدى الذي سرى في الجسم والرّوح منعشًا كما سرى فينا حبّ تلك الأرض وناسها. لذلك قرّرت أن أقوم بمناسبة تلك المهمّة الرسميّة بجولة في مختلف ربوع سوريا التي يعتصر قلبي ألمًا وأنا أرى قدر الخراب الذي أصابها .
بيد أنّ ما استحوذ على فكري خلال جولتي تلك هما مدينتا حمص وحلب.
ولي مع حمص قصّة أحبّ أن أرويها.  فحين تسلّمت مقاليد وزارة الثقافة والفنون والتراث للمرّة الثانية وجدت ملفَّين حول ترميم العُهدة العمريّة وقلعة حمص.  وكان عليّ أن أمدّ صاحب السموّ الأمير الوالد بتقارير عن هذين الملفّين.  وهو ما تطلّب منيّ زيارة المواقع والتثبّت ممّا أُنجز. بدأت زيارتي إلى مسجد خالد بن الوليد الذي يضمّ ضريح الصحابيّ الجليل سيف الله المسلول.  وهو جامع بُني في الأصل في القرن الثالث عشر الميلاديّ قبل أن يُعاد بناؤه أيّام السلطان عبد الحميد الثاني على الطراز العثمانيّ مع مسحة محلّيّة سوريّة لا تخفى على العارفين بمفردات العمارة الإسلاميّة وزخارفها. وهو يمثّل تحفة فنيّّة في المعمار الإسلاميّ تسرّ الناظرين بقبابه التسع ذات الأحجام المختلفة ومئذنتَيه الرائعتَين ومحاريبه الثلاثة ومنبره المصنوع من الرخام المخرّم وحديقته الغناّء التي تحيط به ومرقد الصحابيّ خالد بن الوليد ومتحف الفنّ الإسلاميّ.
لكنّ قلبي ينفطر حين أرى على المواقع الإلكترونيّة صورًا وأشرطةَ فيديو عمّا صار إليه مقام الصحابيّ الجليل والجامع اليوم إثر عمليّات القصف المتتالية.
ولم يكن مسجد خالد بن الوليد ومرقده المعلمَين الوحيدَين اللّذين استهدفهما العنف الهمجيّ للسيطرة على حمص وغيرها من المدن. فقد لحق الدمار مئذنة المسجد الأمويّ في حلب كذلك وجزءًا من أسواق المدينة العتيقة فيها.
في حمص زرتُ كنيسة أمّ الزنّار.  وهي من أقدم الكنائس في العالم إذ بُنيت في منتصف المئة الأولى بعد ميلاد السيّد المسيح عليه السلام.  إنّها شاهد مهمّ تاريخيًّا على دخول المسيحيّة إلى حمص والشام وما عاشه المسيحيّون الأوائل من اضطهاد قبلأن تصبح المسيحيّة دين الإمبراطوريّة.  وهي كذلك شاهد علىالخصائص المعماريّة للكنائس الشرقيّة القديمة بأقواسها البديعةوقناطرها الرائعة وحجارتها المميّزة.
وقد سُمّيت هذه الكنيسة باسم أمّ الزنّار بسبب وجود زنّار السيّدة مريم العذراء عليها السلام محفوظًا في مزار خاصّ ملحق بالكنيسة .وقد كانت هذه الكنيسة منذ عقود قليلة مقرّ بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للسّريان الأرثودكس قبل أن ينتقل الكرسيّ البطريركيّ إلى دمشق.
وحين أشاهد الدمار الذي لحق بهذا المعلم أتبيّن حجم الإجرام في حقّ التراث والتاريخ وشواهد التعايش بين الأديان في مدينة رائعة مثل حمص. وهو تعايش يبرز بالخصوص في مهرجان «السيّدة والصلوات»  حيث يجمع الاحتفال السوريّين من أديان مختلفة.  فيؤدّي المؤمنون طقوسهم الروحيّة والدينيّة ويشاركهم أهل الديانات الأخرى فرحهم بالحياة رقصًا وحفلات وسهرات.
فما أراد المجرمون محوه إنّما هو النمط الاجتماعيّ القائم على التعايش بين الأديان في أرض حمص والشام عامّة.
والمفارقة أنّه لم يخطر البتّة ببال الحكّام المسلمين الذي تولّوا أمر الشام أن يغيّروا من هذا التعايش القديم العريق،  فإذا به يأتي زمن تُدمَّر فيه هذه الأماكن التي تُعبّر عن جوهر الإسلام وسماحته من مسجد خالد بن الوليد إلى العُهدة العمريّة وما نراه من تدمير للتراث الإنسانيّ المسيحيّ وغير المسيحيّ. العُهدة العمريّة
تمثّل العُهدة العمريّة أنموذجًا على تجذّر ثقافة الاحترام بين الأديان والتعايش الممكن بين أهل الملل في إطار السلم الاجتماعيّ. 
وهو أنموذج ضارب في القدم نشأ مع بداية الخلافة الإسلاميّة. فكأنّ هذه «العهدة العمريّة»  تخرج من أعماق التاريخ لتدين ما يقترفه المتطرّفون في حقّ البشر والأعراض والحجر والآثار في أماكن عدّة من عالمنا الإسلاميّ. فأنا أرى في تدمير الميتم وحرق كنيسة الزنّار وحفر القبور والأضرحة فيها سعيًا من الجهلة إلى تدمير الفسيفساء الثقافيّة والبشريّة التي توشّح صدر سوريا.
وحين ننظر في العهدة العمريّة كما أوردها الطبري في تاريخه نجد «أمير المؤمنين» عمر بن الخطّاب يتعهّد بنفسه بأن يؤمّن أهل «إيليا»  )القدس(  على «أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ،وسقيمها وبريئها وسائر ملّته»  و«أنّه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ،ولا يُنتقص منها ولا من حيِّزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم.»
ولمّا طلب بموجب هذه العهدة من أهل إيليا إخراج الروم واللّصوص منها أمّنهم على أنفس هؤلاء المطلوب خروجهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم. إذ جاء في العهدة: «فمن خرج منهم فإنّه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم.  ومن أقام منهم فهو آمن،  وعليه مثلُ ما على أهل إيليا من الجزية.  ومن أحبّ من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيَعَهم )أي كنائسهم( وصُلُبَهم )أي صلبانهم(،  فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيَعِهموصُلُبهم حتى يبلغوا مأمنهم.  ومن كان بها من أهل  
الأرض قبلمقتل فلان،  فمن شاء منهم قعد وعليه مثلُ ما على أهل إيليا منالجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رحل إلى أهله، فإنه لايُؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.»
إنّ هذه الوثيقة التي تعود إلى سنة 15 للهجرة )حوالي 627م( وشهد عليها أربعة من كبار الصحابة هم خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان لا تُعبّر عن رأي الخليفة عمر فحسب بل تُمثّل رأي كبار قادة المسلمين آنذاك.
وشتّان بين هذه الرؤية الإنسانيّة التي تستند إلى أساس أخلاقيّ في التعامل مع أهل الأديان الأخرى وبين من سكنهم شيطان التوحّش والمنطق البدائيّ.  وليس ادّعاء المخرّبين المجرمين بأنّهم يمثّلون الدين الإسلاميّ الحنيف إلاّ أكذوبة يخفون بها نزعة التدمير عندهم ورؤيتهم المنغلقة وجهلهم بالدين عقيدة سمحاء وممارسة تاريخيّة رسم معالمها الأوائل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ولئن مثّل مشروع ترميم المواقع الأثريّة بحمص عندي مصدر فخر وزاد من حماستي لإتمامه على أفضل وجه بسبب علاقتي الوجدانيّة بسوريا، فإنّ تعطّله على إثر الثورة السوريّة منذ سنة 2011 كان مصدر أسى عميق في نفسي.  فكيف تتعطّل أشغال الترميم لتنقلب إلى أعمال تدمير؟ ومن مفارقات الدهر أن تصبح قلعة حمص برمزيّتها الحضاريّة موقعا عسكريًّا عرضة للنيران والقذائف.وبقطع النظر عن التفاصيل في هذا السياق المتفجّر فالأكيد أنّ تخريب هذا التراث الإنسانيّ يصيب كلّ من يعرف قيمة هذه الثروة التي لا ثمن لها بحالة من الاكتئاب لا ينفع معها الشجب والتنديد.
آثار الدّمار على الموصل 
ولمّا كانت «الأحزان لا تأتي فرادى كما الجواسيس بل في فيالق من الجيوش»، على حدّ تعبير شكسبير في «هاملت» فقد واصلَت ،وأنا أراجع مسوّدة هذا الكتاب،  جيوش الجهل والتخريب زحفها البائس على مواقع أخرى من التراث العالميّ وكنوزه الرائعة في مهد الحضارة،  منذ أكثر من خمسة آلاف عام،  على ضفاف دجلة والفرات.
حملت الأخبار دخول عصابات من الدهماء الجناة في العراق المثخن بالجراح إلى مدينة نمرود الأثريّة الآشوريّة.  نهبوا كنوزها وجرّفوها بالآليّات الثقيلة تجريفا.  وكانوا قبل ذلك قد عبثوا في متحف الموصل عبثا شنيعًا فدمّروا التماثيل والمنحوتات النادرة التي تعود إلى الحقبة الآشوريّة.  وشرعت عصابات الجهل تُسقط التماثيل وتحطّمها بالمطارق وآلات الثقب الكهربائيّة.  دمّروا بجهلهم قطعًا أثريّة نادرة.  ولستُ أستبعد بحكم ما ثبت من علاقة بين التهريب والإرهاب في بقاع عديدة من العالم أن تكون تلك العصابات قد سرقت بعض الآثار لبيعها وتمويل أفرادها بالسلاح والعتاد.

وهذا ما جعل منطّمة اليونسكو تصف ما وقع بجريمة حرب
وتطهير ثقافيّ. ولم يكن وصفها هذا من باب المجاز، فما وقع فيحقيقة الأمر يرقى بالفعل إلى جريمة الحرب.  فمدينة نمرود تعودإلى حوالي ألف وثلاثمئة سنة قبل الميلاد بناها الملك شلمنصرالأوّل في أواسط عهد الإمبراطوريّة الآشوريّة.  وأصبحت في حوالي القرن التاسع قبل الميلاد عاصمة لأقوى دولة في العالم .وقد عُرفت بمنتزهاتها الشاسعة وحدائقها الفاتنة وقصورها الملكيّة الرائعة وتحفها المتنوّعة وتماثيلها العملاقة، ولا سيّما تماثيل الثيران المجنحّة الضخمة. ويدلّ كلّ ذلك على حضارة عظيمة ورقيّ وفنّ كبيرَين.
وتفيد الأخبار القليلة أنّ عصابات الجهلة سوّت الموقع الأثريّ بالأرض بعد أن كان يضمّ تماثيل وقلعة وجدرانا. وإنّه لمن المضحك ضحكًا كالبكاء أن يبرّر الجهلة صنيعهم هذا بأنه تدمير للتماثيل التي عبدها القدماء دون الله. إنّه ببساطة تبرير بائس لأناس يعيشون خارج التاريخ يتعلّلون به ولم يفهموا بعد أنّ تلك التماثيل شواهد من التاريخ الحقيقيّ على ارتقاء فكر البشريّة وبلوغها عبر الحقب إلى أعلى درجات التوحيد،  كما لم يفهموا أنّ الفنون والمعمار شواهد على حضارة إنسانيّة مشتركة ينبغي الحفاظ عليها حفاظنا على مقوّمات الكائن البشريّ.  ولكنّ غياب الرؤية الثقافيّة جعلهم يصيبون الثقافة الإنسانيّة في الصميم.
إنّ الهوس بالنقاء الإيمانيّ إذا كان مصحوبًا بالجهل بتاريخ البشريّة والفنون والحضارات يصبح أداة تدمير وتخريب لجوهر الحضارة ولقيم الاحترام والتواضع والنسبيّة.
تومبكتو، لؤلؤة الصّحراء
ولئن بدت جلّ الأعمال البربريّة التي يأتيها الأدعياء المنغلقون فكريّا والمتطرّفون المخرّبون متّجهة نحو التراث الإنسانيّ القديم قبل الإسلام فإنّ حملة «الجهل المقدّس»  أصابوا كذلك التراث الإسلاميّ نفسه. ومثال مدينة تومبكتو في مالي مثال ساطع يبيّن أنّ جرّافات التعصّب تريد أن تقتلع شجرة الإبداع الإنسانيّ المتنوّعة بقطع النظر عن جذورها الثقافيّة أو الدينيّة. فقد مثّلت تومبكتو التي يكنىّ عنها بلؤلؤة الصّحراء مركزًا متميّزًا من مراكز الثقافة الإسلاميّة التي انفتحت على أبواب الصّحراء الإفريقيّة. وهي علاوة على ذلك تمثّل مهدًا لحضارات عديدة مرّت بها وتركت فيها آثارها وشواهدها.
وممّا يدلّ على ثراء تومبكتو آلاف المخطوطات التي يعود بعضها إلى ما قبل الإسلام ويكشف بعضها الآخر تاريخ الأديان وتاريخ الإسلام في تلك الربوع.  وأكثرها يقدّم فكرة واضحة عن ازدهار علوم التاريخ والفلك إنّ تومبكتو خزّان ثريّ للتاريخ والثقافة.  وليس من الغريب أن تكون قد استمدّت اسمها من تسمية الطوارق لمهنة قديمة لدى بعض النساء منهم، وهي «حافظة الأمانات والودائع»! وبهذا كانت اسمًا على مُسمّى.
ذات يوم استيقَظَت هذه المدينة التي حفظت عبر التاريخ بعضودائع الإنسانيّة الرائعة على وقع هجمات تتار العصر الحديثفشهدت مأساة ذبح تراثها النفيس.  ومن أبرز وجوه هذه المأساةتهديم المزارات والمقامات والأضرحة وحتّى المساجد المسجّلةفي التراث الإنسانيّ العالميّ لليونسكو. إذ دمّر الرّعاع الغلاة مدخلمسجد قديم هو مسجد سيدي يحيى واقتلعوا،  في تحدٍّ يائس،  بابًا من أبوابه التي يعتقد الناس في تومبكتو أنّه ينبغي أن يظلّ مغلقا .وهدّم المجرمون ستّة عشر مزارًا ومقاما في المدينة التي توصف بأنّها «مدينة الثلاثمئة وثلاثة وثلاثين وليًّا».  فنال أضرحة سيدي محمود وسيدي المختار وألفا مويا أكبر قدر من التخريب بالأزاميل والمجارف. إنّه تخريب لروح مدينة تومبكتو وتراثها وأصالتها بقدر ما هو تخريب لمنظومة عقائدها الشعبيّة المتجسّدة في المقابر والأضرحة لصلتها بالتراث الروحي الصوفيّ. 
 والطبّ والزراعة والموسيقى في العهد الإسلاميّ ممّا جعلها بوّابة لنشر الإسلام وعلوم أهله بين أمم السودان وشعوبه.
إنّ تومبكتو خزّان ثريّ للتاريخ والثقافة.  وليس من الغريب أن تكون قد استمدّت اسمها من تسمية الطوارق لمهنة قديمة لدى بعض النساء منهم، وهي «حافظة الأمانات والودائع»! وبهذا كانت اسمًا على مُسمّى.
ذات يوم استيقَظَت هذه المدينة التي حفظت عبر التاريخ بعضودائع الإنسانيّة الرائعة على وقع هجمات تتار العصر الحديثفشهدت مأساة ذبح تراثها النفيس.  ومن أبرز وجوه هذه المأساةتهديم المزارات والمقامات والأضرحة وحتّى المساجد المسجّلةفي التراث الإنسانيّ العالميّ لليونسكو. إذ دمّر الرّعاع الغلاة مدخلمسجد قديم هو مسجد سيدي يحيى واقتلعوا،  في تحدٍّ يائس،  بابًا من أبوابه التي يعتقد الناس في تومبكتو أنّه ينبغي أن يظلّ مغلقا .وهدّم المجرمون ستّة عشر مزارًا ومقاما في المدينة التي توصف بأنّها «مدينة الثلاثمئة وثلاثة وثلاثين وليًّا».  فنال أضرحة سيدي محمود وسيدي المختار وألفا مويا أكبر قدر من التخريب بالأزاميل والمجارف. إنّه تخريب لروح مدينة تومبكتو وتراثها وأصالتها بقدر ما هو تخريب لمنظومة عقائدها الشعبيّة المتجسّدة في المقابر والأضرحة لصلتها بالتراث الروحي الصوفيّ. 
وفي الختام:
النملة والفيل
كتبتُ يوما على هاتفي المحمول الخاطرة التالية:
«مدهشة هذه البشريّة بإبداعها المتدفّق كالنهّر الهادر!
مذهلة هذه التّحوّلات العاتية التي لا نعرف إلى أين تقودنا!»
ليس هذا مديحًا للبشريّة وإن كانت به جديرة.  وليس خوفًا من الآتي وإن كان الخوف،  في عالم يتطوّر بسرعته القصوى رغم الحروب والمآسي،  مشروعًا.  فوراء المديح والخوف شيء أعمق مداره على سؤال الإنسانيّة بتناقضاتها الفاضحة:  مكتسبات رائعة تفاجئ كلّ يوم أكثرنا استعدادًا للدّهشة مقابل انتشار مخيف للحرب والفقر والمرض والجهل.  فأنا ممّن لا يفهمون إلى الآن كيف يمكن لدول تدّعي محدوديّة الموارد الماليّة فلا تستثمر في ذكاء أبنائها بالعزوف مثلاً عن تطوير أنظمة التّربية والتّعليم فيها،  حتى لا نتحدّث عن الصّحة وغيرها من الخدمات الاجتماعيّة الأساسيّة ،ولكنهّا ما إن تجد نفسها تخوض حربًا من الحروب الحقيرة حتى تصرف على الأسلحة الفتّاكة، لتقتل شعبها أحيانًا، ما يعادل الموارد اللاّزمة للقضاء على المرض والفقر والجهل في هذه البقعة أو تلك من المعمورة.
يمكننا أن نعلّل ونبرّر ونفسّر الأمور بمفردات السّياسة الإقليميّة والدّوليّة والمصالح وصراعات النفّوذ وما إلى هذا ممّا نفسّر به، في العلوم السّياسيّة والدّراسات الاستراتيجيّة، الحروب التي تنشب هنا وهناك.  بيد أنّني من المؤمنين بالمقولة التي ترى أن الحروب تنشأ في أذهان البشر، وفي أذهانهم ينبغي أن تُبنى حصون السّلام   .
وليس السّلام عندي مجرّد إيقافٍ لآلة الحرب الهدّامة بل هو مثل أعلى أبعد غورًا وأكثر تعقيدًا. فلا سلام ما دامت ثلاثيّة الموت الحقيقي والمجازي مترصّدة:  الفقر والمرض والجهل.  وهي تبرز أكثر ما تبرز في الحروب التي تكشف خطورتها .
لست في حاجة، في هذه العجالة، إلى أن أبرهن على ما اعتبرته إبداعًا بشريًّا مدهشًا. فأنا الآن أمتلك، لحظة كتابتي هذه الصّفحات ،الدّليل القاطع.  فحين أنظر إلى اللّوحة الرّقميّة أمامي أرى تاريخالبشريّة في آخر تطوّراته.  ألمس بإصبعي اللّوحة الصّقيلة فأجدالأحرف المتتابعة تخطّ ما يعنّ لي من الأفكار التي أراها أماميتتشكّل بعد أن كانت غائمة في ذهني. في وسعي الآن أن أغيّر فكرتيوأن أعيد صياغتها وأضع كلمة بدل أخرى. أمحو بيسر وأنقل فقرةمن موضعها إلى موضع آخر دون عناء  .
وحين أتذكّر المراحل التي قطعتها لأتمتّع،  مثل غيري من مواطني القرية الكونيّة،  بهذا الإبداع المدهش أستعيد معاناة ذاك الصّبيّ الذي كنتُ وأنا أتعلّم الخطّ.
كانت الكتابة بالرّيشة مرهقة:  قد تثقب الورقة،  قد يسيح الحبر فينطمس الحرف،  قد تنزلق يد الفتى فيقع الحرف تحت السّطر أو فوقه. فتعلُّم تشكيل الحرف العربيّ أمرٌ صعب تطلّب من الفتى وقتًا طويلاً إلى أن استقرّ، شيئًا فشيئًا، على ما أصبح كالبصمة الشّخصيّة .
وأحمد الله أنّني لم أفقد متعة الكتابة بالقلم رغم إغراءات التّقنية .لقد مررتُ مثل أبناء جيلي من الرّيشة إلى قلم الحبر ومن قلم الرّصاص إلى القلم الجافّ.  ووجدت،  أوّل الأمر،  في الأقلام اللّبديّة،  بما تتيحه من بنط عريض،  بعض ما مكّنني من اختبار قدراتي، المحدودة، والحقّ يقال، في فنّ الخطّ العربي  .
ويعلم كلّ من زار مكتبتي الشّخصيّة ولعي بجمع المصاحف .فالمصحف الكريم هو الفضاء الذي يتجلّى فيه إبداع الخطّاطين العرب وغير العرب إذ يُفرغون من روحهم وإبداعهم ما في وسعهم ليتركوا بصماتهم الخاصّة في أعظم كتاب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.  إنّها ثروتي الرّمزيّة الكبرى التي تذكّرني دائمًا بأنّني من أمّة كتاب كان أوّلُ أمْر فيه هو أمرٌ للرّسول الأكرم والمؤمنين بالقراءة.ولئن كانت المصاحف التي جمعتُها تشكيلة بديعة من الخطوط لأعظم الخطّاطين العرب والمسلمين فإنّ أحبّها إلى نفسي مصحف أبي.  فهذا المصحف مكتوب بالخطّ الذي تُكتب به اللّغة الأرديّة في شبه القارّة الهنديّة.  إنّه تزاوج عجيب شيّق بين النصّ المقدّس الذي نزل بالعربيّة وخطّ استنبطه أهله لكتابة لغة مختلفة: صورة من تفاعل الثّقافات مبهجة .
وربّما كان هذا التّعايش بين قلم الحبر واللّوحة الرّقميّة من جهة وبين الخطوط الرّائعة التي أجمعها في مكتبتي من خلال المصاحف البديعة وتشكيلة الخطوط التي يوفّرها الحاسوب والهاتف المحمول ممّا يخفّف لديّ الشّعور بالتّحوّل المفاجئ. فأنا لا أرى بينها قطيعة في نفسي بل هو تراكم للذّكاء المتطوّر في تجلّيه الرّقميّ اليوم.
لقد دلّلت البشريّة،  بنقلاتها من الألواح السّومريّة في بلاد الرّافدين إلى الألواح الرّقميّة،  على جانب من التّحوّلات المدهشة التي ألمحتُ إليها. وبين هذه الألواح الطّينيّة والألواح الذّكيّة قضت البشريّة قرونًا وقرونًا لابتكار صناعة الورق في الصّين وضبط الألفباء الفينيقيّة خلال الألفيّة الأولى قبل الميلاد.  وقضت قرونًا أخرى لتخترع المطبعة وتطوّر تقنيات الطّباعة والكتاب بعد ظهور الكتاب المخطوط.
لكنّ الكتاب الرّقميّ،  علاوة على ما أحدثه من ثورة في النشّر والتّوزيع، أصبح وعاء قادرًا على استيعاب الكتاب المطبوع القديم والمخطوط أيضًا.  فطاقة الخزن الهائلة ورقمنة المخطوطات منالتّحدّيات الكبرى التي أمكن للبشريّة رفعها أو على الأقلّ توفيرالبنية التّحتيّة الرّقميّة لحفظ تراث البشريّة في كلّ مكان وبكلّاللّغات.
هذا التطوّر المدهش إذًا قام على قرون وقرون من صعودالإنسانيّة في مدارج المعرفة وهو اليوم مهدّد في كلّ لحظة بسبب الحروب التي تدمّر في حقيقة الأمر جوهر الإنسانيّة وتقتلع جذور الإبداع فيها.


 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved